د. محمد ماهر الجراح
يعتبر موضوع الذكاء البشري من أهم المجالات التي يقوم علماء النفس بإجراء أبحاث عديدة عليها منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، ونتائج هذه الأبحاث كانت مفيدة جدا للبشر من أجل تحديد مستوى ذكائهم ونوعه ومعرفة العمر العقلي لشخص ما وفهم المجالات التي يمكن أن ينجح بها إذا درسها في الجامعة أو المهنة التي قد يبدع بها. ولا شك أننا جميعا تساءلنا يوما ما عن مستوى ذكائنا ومستوى ذكاء أطفالنا وتولد لدينا فضول لمعرفة المزيد عن الذكاء واختبارات الذكاء، وربما سمع بعضنا بنظرية الذكاءات المتعددة أو أن هناك أنواعا مختلفة للذكاء يمكن قياسها بطرق علمية. لقد حدد العلماء سبعة أنواع مختلفة من الذكاء وقاموا بدراستها ضمن اختبارات عديدة ولكن معظمنا لا يعرفها بالتحديد وربما يكتفي بإطلاق صفة “ذكي” على من يتفوق بنوع واحد منها فقط ويتم إهمال بقية الأنواع، لكن النظرة التحليلية الشمولية لأنواع الذكاء تساعدنا على فهمه بشكل أوسع وأعمق وتفيدنا في إدراك خصائصه وتفاصيلها. سيفيدنا في فهم هذه الأمور دارسة تعريف الذكاء وأنواع واختبارات الذكاء وشرح نظرية الذكاءات المتعددة الشهيرة لكي نعرف المزيد عن الذكاء وأنواعه وكيف قام العلماء بدراسته.
تعريف الذكاء
قام العديد من العلماء بوضع تعريفات مختلفة للذكاء، ولكنهم لم يتفقوا أبدا على تعريف واحد يتم الإجماع عليه من قبلهم. قد يرجع سبب عدم اتفاقهم على تعريف واحد للذكاء إلى كون الذكاء شيئا معنويا وليس ماديا، أي لا يمكن لمسه ولا إدراكه بالحواس الخمس، وتعمل الفروق الفردية المتعددة دورا كبيرا في خلق صعوبة كبرى تواجه العلماء عندما يحاولون الوصول إلى تعريف محدد للذكاء يتم الاجماع عليه من قبلهم.
ومن أشهر التعاريف التي قدمها العلماء للذكاء هذه التعريفات: “الذكاء هو القدرة على إيجاد العلاقات بين الأشياء”، و “هو القدرة العقلية العامة عند الأفراد” و”القدرة على تطبيق ما اكتسبه الفرد من معلومات وخبرات سابقة ضمن حالات جديدة”. ومن المعروف بشكل عام عن الأذكياء أنهم يتعلمون بسرعة وسهولة أكثر من غيرهم، ولديهم قدرات عالية على الفهم والتذكر والتفكير السريع وحل المشكلات والمسائل الرياضية والمنطقية وامتلاكهم لذخيرة واسعة من المفردات العامة والاختصاصية والمهارات اللغوية.
ما هي اختبارات الذكاء؟
كان العالم الفرنسي ألفرد بينيه مع زميله العالم ثيودور سيمون أول من صمم اختبارات للذكاء في سنة 1904 بتكليف من وزارة التربية الفرنسية التي طلبت منه إيجاد وسيلة لتحديد تلاميذ الصف الأول في المرحلة الابتدائية المعرضين للرسوب مسبقا كي يتم إيلاءهم اهتماما خاصا لعلاج حالاتهم خلال العام الدراسي فيتجنبوا خطر الرسوب في نهاية العام. دراسات بينيه وسيمون أدت إلى تصميم أول اختبار لقياس الذكاء بعد أن اكتشفوا أنه بالإمكان قياس الذكاء بشكل علمي وموضوعي والتعبير عنه بنسبة مئوية أطلق عليها اسم “معدل الذكاء” Intelligence Quotient Score والتي تم اختصارها باللغة الإنكليزية لتصبح IQ.
اختبار بينيه & سيمون للذكاء
وضع بينيه & سيمون اختبارا للذكاء يشمل 30 نوعا من الاختبارات لقدرات الفرد العقلية منها القدرة على تذكر الأرقام والمقدرات اللغوية واكتشاف أوجه التشابه بين الأشكال وإكمال الجمل. وفي عام 1908 قام هذان العالمان بتعديل الاختبار فجعلاه يحتوي على مستويات متدرجة في الصعوبة تناسب أعمار الأطفال من سن 3 سنوات إلى 12 عاما. ونتيجة لذلك، صار بالإمكان استخدم مصطلح “العمر العقلي” للطفل حسب النتائج التي يحققها في هذه الاختبارات.
ألفريد بينيه أول من صمم اختبارا للذكاء
نظرية الذكاءات المتعددة
وبعد ذلك انتشر استخدام اختبارات الذكاء وتصميمها في العديد من دول العالم إلى أن جاء عالم النفس هوارد جاردنر الذي كان باحثا في جامعة هارفارد الأمريكية وألف كتابه الشهر “أطر العقل” Frames of Mind في عام 1983 الذي انتقد به تعريف الذكاء الذي كان شائعا خلال العقود الماضية باعتباره تعريفا ضيقا جدا لا يوضح حقيقة الذكاء وخصائصه.
وكبديل عن ذلك التعريف الضيق للذكاء، قدم هوارد جاردنر نظريته المتعلقة بالذكاءات المتعددة والتي تجعل تقدر نسبة ذكاء الفرد شيئا لا يعبر عن حقيقة ذكائه وخصائصه لأن هناك سبعة أنواع للذكاء وكل فرد يمتلك قدرا مختلفا من كل نوع من هذه الأنواع بحيث يمكن أن يكون أحد الأشخاص متفوقا في أحد أو بعض هذه الأنواع ولكنه لا يمتلك مقدارا عاليا من أحد أو بعض الأنواع الأخرى.
هوارد جاردنر صاحب نظرية الذكاءات المتعددة
الأنواع السبعة للذكاء التي حددها هوارد جاردنر هي:
ويعني القدرة على استخدام مفردات اللغة بفاعلية في مجالات مثل رواية القصص والشعر والخطابة وكتابة المقالات. يشمل هذا الذكاء قدرة الفرد على التعامل مع اللغة ومعالجة تركيبات جملها وكلماتها وأصواتها والاستخدامات العملية لها مثل استخدامها لإقناع الآخرين أو لكي تعين الذاكرة لتذكر بعض المعلومات أو لتشرح موضوعا ما للآخرين بطريقة مبسطة أو تناسب مستواهم الثقافي والعلمي. دلالات الذكاء اللغوي قد يكتشفها المعلمون أو الآباء لدى أطفالهم في سن مبكرة عندما يلاحظون قدرتهم على حفظ كمية كبيرة من المفردات ربما منذ سن مبكرة ومهاراتهم في التعبير اللغوي والإنشاء أو رواية القصص والشعر وفهمهم للمفردات الصعبة أو الاختصاصية.
هو قدرة الفرد على استخدام الأرقام بطرق مختلفة والقيام بعملية الاستدلال بشكل فعال وهو واضح لدى علماء الرياضيات والإحصائيين والمحاسبين ومبرمجي الكمبيوتر. وهذا النوع من الذكاء يشمل القدرة على الاستنتاج المنطقي والتجريد والتصنيف والعلاقات والتعميم والحساب واختبار الفرضيات. يمكن ملاحظة الذكاء الرياضي لدى الأفراد الذين يمتلكون مهارات في مجال استخدام الأرقام وحل المعادلات الرياضية وبرمجة الحاسوب والإحصاء والتعامل مع سلاسل الأعداد والأشكال الهندسية والنسب والمثلثات.
يقصد به القدرة على إدراك المكان بصريا بدقة والقيام بتغييرات بالاعتماد على إدراكه له (أي أنه يشمل القدرة على إدراك الاتجاهات والمسافات والأبعاد) مثلما يقوم المهندس بدراسة مساحات الأراضي وتصميم إنشاءات لأبنية بشكل هندسي بارع. ومن أسس هذا الذكاء إمكانية فهم الأشكال الهندسية وأبعادها والعلاقات الموجودة بين عناصرها والقدرة على تصورها وإنشائها وتحليلها وتعديلها. يمكننا مثلا إدراك طبيعة هذا الذكاء عندما نرى بعض الأشخاص يخطئون في تحديد المسافات ويجدون صعوبات في قيادة السيارة للخلف لإيقافها في مكان ضيق، هؤلاء عادة ما يكونون ذوي ذكاء مكاني أقل من المعدل العام، ولكن هذا لا يعني أن بقية أنواع الذكاء لديهم أيضا أقل من المعدل العام.
ويعني قدرة الفرد على استخدام جسده بالكامل للتعبير عن أفكاره وأحاسيسه، مثل الرياضيين والفنانين والراقصين، ومهارته في استخدام يديه لصنع الأشياء والتعامل معها مثل الجراحين والخياطين والنحاتين. هذا النوع من الذكاء يشمل القدرة على التوازن والمرونة والسرعة والرشاقة. لا شك أن القدرة على استخدام بعض الأدوات تحتاج إلى تدريب وممارسة لمدة معينة ولكن يمكننا فهم هذا النوع من الذكاء عندما نرى أن بعض الأفراد يتفوقون على غيرهم خلال التدريب على مهارات جسدية معينة مثل الرقص والخياطة والنحت وغيرها من المهن التي تتطلب مهارات حركية عالية.
ويقصد به قدرة الفرد على فهم الصيغ الموسيقية وتمييزها وتعديلها والتعبير عنها، وهذه العمليات يبرع بها الملحنون والعازفون إذ يمتلكون إدراكا عاليا لأنغام الموسيقى ويفهمون تناسقها وشدتها وطبقاتها ولديهم مهارات عالية في استخدام الآلات الموسيقية للعزف إما من الذاكرة أو بواسطة قراءة النوطة الموسيقية. ويبرز هذا النوع من الذكاء بشكل واضح عند مشاهير الملحنين مثل بيتهوفن الذي امتلك مهارات عظيمة منذ سن مبكرة في مجال التلحين وتأليف سيمفونياته الموسيقية الشهيرة.
يعني القدرة على فهم مشاعر الآخرين ومزاجهم من خلال ملاحظة وفهم تعابير الوجه ونبرة الصوت ولغة الجسد والقدرة على التعامل معها والاستجابة لمقاصدها ودلالاتها بشكل إيجابي. وهذا النوع من الذكاء ضروري للإنسان لكي يفهم ويتواصل ويتفاعل مع الآخرين بشكل جيد ويتميز الأفراد ذوي الذكاء الاجتماعي العالي بقدرتهم على التواصل الفعال والتعامل مع الآخرين بشكل أفضل من غيرهم ويتميزون عادة بقدرتهم على إقامة والحفاظ على علاقات ودية وناجحة أكثر معهم، وهم قادرون على النجاح في ضمن بيئة عملهم ومحيطهم بشكل عام. أما بالنسبة للأفراد الذين يمتلكون ذكاء اجتماعيا منخفضا فإنهم عادة يعانون من علاقات اجتماعية سيئة وعدم قدرة على التفاهم مع الآخرين بشكل فعال ويجدون صعوبات في علاقات العمل والتعامل مع الزملاء والتأقلم مع البيئة بشكل مناسب.
ويعني قدرة الإنسان على فهم نفسه والتصرف وفقا لذلك الفهم، ويتضمن هذا المفهوم الإحاطة بنقاط الضعف والقوة وحدود الإمكانيات والوعي للحالة المزاجية والعاطفية والأحاسيس والغرائز والدوافع والانفعالات والقدرة على التحكم بها وتوجيهها لتحقيق التوازن النفسي وضبط السلوك والنفس وتوجيهها لتحقيق غايات وأهداف عقلانية وأخلاقية معينة. لقد أدرك سقراط أهمية هذا النوع من الذكاء ولذلك قال جملته الشهيرة “اعرف نفسك” لأنه استنتج أهمية فهم الذات من أجل التوصل إلى شخصية متزنة وناجحة اجتماعيا، ولا شك أن الإنسان يقضي سنوات طويلة من حياته وهو يحاول فهم نفسه والتحكم بعواطفه وغرائزه وانفعالاته لأنه يدرك خطورة الفشل في ذلك منذ سن مبكرة، لكن قدرة البشر على النجاح في ذلك تختلف باختلاف مستوى ذكائهم الشخصي.
ولا تزال الأبحاث مستمرة عن الذكاء
لا يزال العلماء يجرون العديد من الأبحاث عن الذكاء، وقد انتشر منذ مدة مفهوم “الذكاء الاصطناعي”Artificial Intelligence الذي يقصد به الأنظمة أو الأجهزة التي تمتلك قدرات تحاكي الذكاء البشري تمكنها من أداء المهام وتحسين أدائها بناء على المعلومات التي تقوم بتجمعها وتحليلها، مما أدى إلى طرح تساؤلات عديدة حول مستقبل الحاسوب والآلات عموما وهل ستتمكن يوما ما من التفوق على البشر والسيطرة عليهم أو التلاعب بهم أم أن الإنسان سيبقى سيد الآلات لأنه هو الذي اخترعها ويقوم ببرمجتها وتطويرها. وتظل هناك حاجة لكل من يهتمون بموضوعات التربية والتعليم لفهم الذكاء وتطوره لدى الأطفال والبالغين لكي يتمكنوا من التعامل معهم خاصة ضمن إطار العملية التعليمية. وفي جميع الأحوال، لا بد لكل شخص يهتم بتطوير نفسه وقدراته العلمية من أن يحاول فهم قدراته العقلية أو قياس معدل ذكائه بطريقة ما أو معرفة معدل ذكائه في مختلف أنواع الذكاء التي شرحها جاردنر لكي يحاول دائما معرفة أفضل الطرق والمجالات التي يمكنه النجاح بها والتفوق فيها أو معرفة نقاط ضعفه لكي يقوم بتقويتها ومعالجتها بأساليب علمية ومنهجية إذا أراد ذلك. وإذا كان الأمر لا يهمنا شخصيا، فلا شك أنه سيكون مفيدا وهاما لأطفالنا لكي نتمكن من فهم قدراتهم ومتابعتهم خلال مسيرتهم التعليمية الطويلة.
تعليقان
تنبيه: أفضل طرق تساعد الشركات الصغيرة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي - الشبكة الإخبارية الأولي
تنبيه: طرق تحقق الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في التسويق الإلكتروني - الشبكة الإخبارية الأولي