الصقور، “أسود الأجواء وملوكها”
الصقور هي أشرس الطيور الجارحة وأسرعها إذا تصل السرعة القصوى لبعض أنواعها إلى أكثر من 250 كلم في الساعة، وهي سرعة يستحيل على غيرها من الطيور الوصول إليها وهذا ما يجعلها قادرة على مطاردة جميع الطيور الأخرى ولا يمكن أن ينجو أي طير من مخالبها مهما كانت سرعته. وهي تتميز ببصر حاد يمكنها من رؤية فريستها من مسافة بعيدة جدا وهذا ما يمكنها من إجراء عملية مسح ومراقبة لمساحة واسعة من الأرض عندما تحلق على ارتفاعات عالية جدا، ونظرا لخصائصها الفريدة هذه فهي تعد بحق مثل “أسود الأجواء وملوكها” في عالم الطيور.
الصقارون في الإمارات
تعد الإمارات من الدول القليلة في العالم التي يمارس فيها عدد كبير من الصقارين مهنتهم وهوايتهم المفضلة وهي تربية الصقور واستخدامها للصيدمنذ ألفي عام تقريبا، ويتم فيها إجراء مسابقات للصقور، منها معرض أبوظبيالسنوي للصيد والفروسية، ويقوم العديد من الصقارين فيها أيضا بالمشاركة في مسابقات عالمية نظرا لاهتمامهم الشديد بهذه الهواية الممتعة. وقد تم إنشاء نادي صقاري الإمارات في عام 2001 لتعليم الأعضاء الجدد كيفية ممارسة “الصقارة” وأصولها، وتقام لها مسابقات كبيرة تمنح فيها جوائز كبيرة للفائزين لتشجيعهم على الاستمرار في ممارستها ومنحهم الفخر الذي يستحقونه في تفوقهم في هذه الهواية والمهنة المتعة.
اعتراف اليونسكو بـ “الصقارة”
وقد قامت هيئة أبوظبي للتراث ونادي صقارو الإمارات ووزارة الثقافة في الإمارات بجهود كبيرة استمرت لخمس سنوات متواصلة للتنسيق مع 18 دولةأخرى منها السعودية وسوريا والمغرب وقطر واسبانيا لكي يتم اعتماد هذه المهنة والهواية من ضمن قائمة التراث الإنساني غير المادي في منظمة اليونسكو العالمية. وكان من ضمن تلك الجهود المبذولة للحصول على اعتراف اليونسكو القيام بتجميع العديد من الصور والأفلام والمقالات العربية والأجنبية المتعلقة بـ “الصقارة” وإجراء مقابلات خاصة مع العديد من الصقارين لأخذ آرائهم ومعلومات منهم عن هذه المهنة والهواية من أجل تقديم معلومات موثقة إلى منظمة اليونسكو تتضمن شروحات وتفاصيل كثيرة عن “الصقارة” كهواية ومهنة تشمل تاريخها وأصولها وفوائدها واهتمام الناس بها منذ زمن طويل في عدة بلدان. وفي عام 2010، تكللت تلك الجهود بالنجاح عندما استجابت منظمة اليونسكو لهذه الطلب إذ أصدرت قرارا باعتماد “الصقارة” ضمن هذه القائمة الفريدة التي تحوي أهم عناصر التراث العالمي الذي تفخر به بلدان العالم، مثل الفنون والملابس التقليدية والرقصات الشعبية، وتسعى إلى إشهاره وتعريف العالم به لكي تحفظ تراثها وتحميه وتفخر به.
أصول وتاريخ “الصقارة” ضمن التراث الإماراتي
ترجع أصول هواية ومهنة تربية الصقور المسماة بـ “الصقارة” إلى زمن طويل جدا قد يصل إلى حوالي آلاف السنين إذ كان البدو في الصحراء يهتمون بتربية الصقور واستخدامها في الصيد في الصحراء نظرا لقدرتها الفائقة على رؤية الفرائس ومطاردتها واقتناصها في الصحراء، وهي تتفوق بذلك على أي كائن آخر. وقد تطورت “الصقارة” مع مرور الزمن وأصبحت منذ سنوات طويلة هواية يعشقها الكثيرون من سكان الخليج العربي ويهتمون بها، ويحرصالصقارون في الإمارات على توريث هذه الهواية والمهنة على تعليم أبناءهم وأحفادهم أصولها ويوصوهم بالحفاظ عليها وممارستها لكي يتم توارثها عبر الأجيال بشكل دائم.
“الصقارة” والتكنولوجيا
وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة في دعم “الصقارة” إذ تم قبل مدة اختراع شريحة خاصة يتم تثبيتها في جسم الصقر لكي يتم تتبعه عبر الأقمار الصناعية بتقنية الـ جي بي إس، لكي لا يضيع في الصحراء. وتعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة أول دولة في العالم تقوم بإصدار جوازات سفر خاصة للصقور في عام 2004 لكي يتمكن الصقارون اصطحابها معهم في أسفارهم، ويتم وضع شريحة تعريف الكترونية خاصة في جسم الصقر وحلقة يسجل عليها رقمه المرتبط بقاعدة بيانات لكي يتم إثبات هويته عند مغادرة الدولة بصحبة الصقار أو وكيله، وكذلك عند عودته إليها، وذلك لأهداف شخصية وليست تجارية. جوازات السفر هذه تم إصدارها بموجب اتفاقية دولية تشترك بها أكثر من 160 دولة تسمى اتفاقية “السايتس” يتم بموجبها السماح بتنقل الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض بدون الحصول على تأشيرة سفر.
مستشفى الصقور في الإمارات
أما بالنسبة للعناية بصحة الصقور، فقد تم إنشاء مستشفى متخصص لها في أبوظبي ويتم به علاج آلاف الصقور التي يحضرها أصحابها من داخل دولة الإمارات ومن دول الخليج الأخرى أيضا كل عام من جميع الأمراض التي تصاب بها، وهو المستشفى التخصصي الأكبر من نوعه في العالم لعلاج الصقور. وهذا المستشفى يعتبر من ضمن الجهود المتواصلة المبذولة من قبل دولة الإمارات لحماية ورعاية الصقور ضمن دولة الإمارات وعلى مستوى إقليمي وعالمي لأن الصقور البرية تعتبر مهددة بالانقراض، والصقور التي تتم تربيتها وتهجينها وتكاثرها ضمن مزارع خاص تحتاج إلى عناية طبية مختصة أيضا.
الاهتمام بالصقور المهجنة في الإمارات
وقد ساهمت المعارض والنوادي والسباقات التي تقام لـ “الصقارة” في جعل استخدام الصقور التي يتم تهجينها ضمن المزارع أكثر انتشارا بنسبة تتجاوز الـ 75%، وهذا ما يشجع الصقارين على عدم استخدام الصقور البرية التي يتم اصطيادها لكي تتكاثر بشكل طبيعي ويزيد عددها كي لا تنقرض. يتم في هذه المسابقات توزيع جوائز قيمة على الصقارين الذين يمتلكون أكبر الصقور حجما وأجملها ريشا وألوانا، وذلك حسب أنواعها إذ يتم خلالها اختيار أكبر وأجمل صقر من نوع “جير حر” مهجن، ونوع “جير شاهين”، بالإضافة إلى أكبر وأجمل “جير ذكر”.
المتعة في هواية “الصقارة”
ربما تكون أهم متعة يشعر بها الصقارون هي التمتع بالعلاقة القوية التي تنشأ بين الصقر وصاحبه خاصة خلال فترة ترويض الصقور. خلال الترويض، يتم وضع دمية تشبه الطريدة مربوطة بحبل يمسك به المروض، وعندما ينقض عليه الصقر ليمسكها، يقوم المروض بسحبها بالحبل مرات عديدة حتى يتعلم الصقر ملاحقتها وتكرار المحاولة باستمرار ويفهم ما هو مطلوب منه تماما. وبعدها ينتقل الصقر إلى المرحلة الثانية من التدريب وهي التدرب على صيد الحمائم الحية. وعندما يتقن عملية اصطيادها ومطاردتها، يمكن استخدامه في الصيد في الصحراء بشكل فعلي لكي يتمكن من صيد الطرائد فيها. وخلال فترة الترويض، يتمكن الصقر ومدربه من التعرف على بعضهما ويألف الصقر مدربه الذي يحمله على يده بعد أن يضع عليها “المنقلة”، وهي طوق واق من الجلد يلتف حول يد الصقار في منطقة الزند، لكي يتمكن الصقر من الوقوف عليها بثبات بعد أن يغرز مخالبه فيها، وعندها يتم استخدم غطاء خاص يسمى “البرقع” لتغطية عيني الصقر خلال توقفه عن الترويض والصيد.
أنواع الصقور
وأهم أنواع الصقور المشهورة في الإمارات ما يسمى بالطير الحر، وهو أكثرها صبرا وتحملا وافتراسا، وله ثلاثة أنواع هي (الحر الكامل والقرموشة والوكرى الحرار). أما صقور الشاهين فهي أيضا من أشهر أنواع الصقور وعادة ما تفضل العيش بالقرب من الشواطئ لأنها تفضل اصطياد الفرائس المائية، ويوجد منها أعداد كبيرة في الإمارات ولها أنواع هي (الشاهين الكامل، والوكري، والخميس والتبع)، وهي كبيرة الحجم نسبيا وقوية ورمادية اللون مع ألوان فاتحة أو بنية في الجزء العلوي منها. وهي سريعة جدا إذ قد تتجاوز سرعتها 250 كلم في الساعة، وهناك 19 نوعا من صقور الشاهين تختلف أحجامها وألوانها وغالبا ما تمتلك تاجا رماديا وريشا أبيضا ورماديا وأحمرا في الأجزاء السفلى من أجسامها بالإضافة إلى بقع غامقة اللون، وأرجلها ذات جلد لونه أصفر أو برتقالي. وهي منتشرة في جميع أنحاء العالم تقريبا وبعضها يعيش في الصحاري والغابات والجبال أو حتى في المدن ويقوم ببناء أعشاشه على المباني العالية أحيانا، وإناث الشاهين أكبر حجما من ذكوره بنسبة الخُمس تقريبا.
النوع الآخر المشهور من الصقور هو ما يسمى بالكستوليات، وهي أصغر أنواع الصقور حجما ولونها بني ضارب إلى الحمرة ورأسها عليه خطوط بيضاء وسوداء وما يشبه الشاربين. أماكن تواجدها هي كندا والولايات المتحدة الأمريكية (أمريكا الشمالية)، ورغم أن سرعتها تتراوح فقط ما بين 35 إلى 63 كلم في الساعة فقط لكنها طيور مقاتلة وعدوانية وشرسة تقوم باصطياد الحيوانات الصغيرة الحجم نسبيا والأفاعي والطيور الأخرى حتى الجارحة منها مثل البوم والصقور الأخرى، وهي تعيش ضمن مناطق تعتبرها خاصة بها تسعى إلى حمايتها من بقية الطيور الأخرى إذا ما حاولت الدخول إليها.
موسم الصيد في الإمارات
يقوم الصقارون المحترفون في دولة الإمارات بتحديد بداية موسم الصيد باستخدام الصقور بمشاهدة ظهور نجم سهيل لأنه يحدد بداية تحول المناخ (في أواخر شهر أيلول/سبتمبر وأوائل شهر تشرين الأول/ أكتوبر، ويتم اختتام موسم الصيد في بداية فصل الربيع الذي يحل في شهر آذار/مارس. خلال هذا الموسم تصل إلى الإمارات العديد من الطيور المهاجرة التي تعتبر الطرائد التي تقوم الصقور باصطيادها خلال هذه الفترة.
الكاتب: د. محمد ماهر الجراح
أبوظبي، 11/3/2023